انظر في وجوهنا ستري غزة في ملامحنا

بقلم: د. سعيد محمد أبو رحمه
باحث وأكاديمي من غزة
في الوقت الذي تغيب فيه صور الحرب عن الشاشات، وتستبدل العناوين الساخنة بأخرى أكثر جذبًا للمشاهد، تبقى غزة حاضرة في تفاصيل لا تُبث، لكنها تُروى في الوجوه. ليست غزة فقط تلك المدينة الساحلية المحاصرة بالنار والخذلان، بل باتت انعكاسًا دائمًا للألم الإنساني، وللصمود المتجذر في ملامح أبنائها. من عاشوا النزوح والدمار لم يعودوا بحاجة إلى رواة أو محللين. يكفي أن تنظر في وجوههم، لتقرأ التاريخ، وتفهم الجرح.
وجوه الغزيين اليوم ليست مجرد تعبيرات متعبة، بل شواهد حية على واقع يقاوم النسيان. في عيون الأطفال حكايات عن الخوف والجوع، وفي وجوه الأمهات خريطة فَقد لا تُمحى. الشيوخ يحملون على ملامحهم عزيمة من لم تُهزم روحه رغم الحصار، والشباب يُخبئون خلف صمتهم حلمًا مؤجلًا، ووطنًا مؤجلًا.
غزة لم تعد جغرافيا تُحدّد على خارطة، بل باتت شعورًا مشتركًا، يسكن كل من ينتمي إلى القضايا العادلة. هي قصة شعب، تُحكى في كل طابور انتظار، في كل مخيم نزوح، في كل دعاء يُرفع على عجل، وفي كل نفس يُنتزع من رماد الحياة.
في زمن تتراجع فيه التغطية الإنسانية لحساب التحليلات الاستراتيجية، يبقى وجه الغزي أصدق تقرير، وأبلغ خطاب. لأن الوجع لا يحتاج إلى تعليق… بل إلى عدالة، طال غيابها.
في الوقت الذي تهدأ فيه الضربات وتخفت أصداء القصف قليلاً، تبقى غزة حيّة في الوجوه. وجوه تحمل كل ما عجزت نشرات الأخبار عن نقله: صمت موجع، نظرة طويلة مشبعة بالانتظار، وتجاعيد رسمها الخوف والجوع والفقد.
غزة اليوم ليست فقط قضية، بل مأساة إنسانية ممتدة، تتطلب من العالم—وخاصة المفاوضين—أن يلتفتوا بنظرة رحيمة، لا بحسابات المصالح الباردة. هؤلاء الذين يجلسون على طاولات التفاوض، يرسمون خرائط مستقبل غزة، فليأخذوا دقيقة واحدة فقط، وينظروا في وجوهنا. سيجدون فيها ما لا تقوله الخطابات ولا توصله التقارير: سنجد أمًا أنهكها النزوح، وطفلاً نسي ملامح بيته، وشابًا يحاول أن يتشبث بالحياة وسط الركام.
فلا تتعاملوا مع غزة وكأنها ورقة، بل انظروا إليها كما هي. كأرواح تستحق الحياة، وكرامة تنتظر الإنصاف. غزة لا تحتاج الشفقة، بل إلى العدالة. لا تحتاج الوقوف عند الأرقام، بل إلى من يتعامل مع دموع الناس كحقائق لا يمكن تجاوزها. انظروا في وجوهنا. سترون حجم الجرح، وستعرفون أن الرحمة يجب أن تكون أساس أي اتفاق، لا الاستراتيجية فقط. انظر في وجوهنا… ستعرف كل ما فاتك من نشرات الأخبار.