رحلتي لم تبدأ من مطار... بل من قرار أن لا أكون ظلًا لأحد" حوار مع الكاتبة والصحفية رولا سالم

أجرت الحوار: نوال النجار.
وسط عالم سريع التغيّر، تتحدث الصحفية والكاتبة رولا سالم عن مسارات عبورها المتعددة، من الصحافة إلى ريادة العمل، ومن وطن غادرته مضطرة إلى وطن صنعته بيديها. في هذا الحوار، تعود بنا إلى تلك اللحظة المفصلية حين قررت أن تعيد كتابة مصيرها بنفسها، لا وفق ما خُطط لها.
س: تقولين إن بداية الرحلة لم تكن مرتبطة بمكان، بل بقرار. كيف تستحضرين تلك اللحظة الآن بعد مرور خمس سنوات؟
أستحضرها كأنها لحظة انشقّ فيها الزمن إلى نصفين. لم يكن القرار مجرد رغبة بالانتقال، بل قفزة في الفراغ، دون شبكة أمان. كان داخلي يقول: "إن بقيتِ، ستذبلين ببطء"، وإن غادرتِ، فكل شيء غير مضمون. اخترت المغادرة، لا لأنني شجاعة بالضرورة، بل لأنني لم أعد أتحمل خيانة الحياة لي بهذا الشكل المتكرر. غادرت لأحمي ذاتي، لأربّي ابني في بيئة لا تكسر أمه كل يوم.
س: كيف كانت البدايات في الإمارات؟ ما الذي كان ينتظرك هناك؟
كانت مدينة مزدحمة بالفرص والمخاوف في آن. لم أنتظر شيئًا من أحد. جئت وأنا أجرّ خلفي خيبات كثيرة، وتاريخًا مهنيًا لم يشفع لي في سوق جديد. بدأت من الصفر، من وظائف مؤقتة، من غرف مستأجرة، ومن نظرات لا ترى في المرأة القادمة مع طفل سوى "عبء". لكنني كنت أعرف كيف أروي حكايتي، وكيف أجعل من كل فرصة صغيرة منصة للصعود.
اليوم، وبعد كل هذا الطريق، أنا مديرة عمليات في شركة رائدة في قطاع السياحة، أدير فرقًا متعددة الجنسيات، أضع الاستراتيجيات، وأتحمّل مسؤوليات كبرى، لأنني أثبتُّ نفسي بعمل يومي شاق وصادق.
س: وما العلاقة التي ربطتك بالصحافة خلال هذه السنوات؟ هل هجرتِها تمامًا؟
الصحافة لا تُهجر، هي صوتي الأول، طريقتي في تفسير العالم. بدأت ككاتبة صحفية في دمشق، عملت في مواقع اقتصادية واجتماعية، وأدركت مبكرًا أن الكلمة قد لا تغيّر العالم، لكنها تغيّر من يكتبها. حتى وأنا أعمل في القطاع السياحي، ما زلت أكتب، أشارك في إعداد المحتوى، وأوثق التجارب، وأكتب قصص النساء اللواتي يشبهنني. الإعلام اليوم صار متعدد الأشكال، وأنا أجد نفسي دائمًا قريبة من صناعته، سواء من خلف الكواليس أو في الواجهة.
س: مشاركتك الأخيرة في مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما 2025... كيف تلخّصينها؟
كانت تجربة غنية على كل المستويات. كنت هناك بصفتي الإعلامية، لكنني كنت أيضًا شاهدة على لحظة نادرة من تقاطع الثقافات والتجارب. في مهرجان الفجيرة، المسرح لم يكن فقط للعرض، بل للحوار، للبوح، لكشف المسكوت عنه. أكثر ما لفتني هو الحضور النسائي في العروض، سواء كموضوعات أو كمشاركات فعليات، وكان لي لقاءات عديدة مع مخرجين وممثلات من دول مختلفة، تحدثنا عن المسرح كمساحة للحرية... وعن الوطن كذكرى لا تغادرنا.
شعرت أن وجودي هناك لم يكن عبورًا عابرًا، بل إسهامًا في نقل صورة هذا الحدث إلى جمهور أوسع، وتعميق النقاش حول الفن كأداة للنجاة، ولإعادة بناء الهوية في المنفى.
س: كيف تنظرين اليوم إلى الأمومة ضمن كل هذا المسار؟
ابني هو كل الحكاية. كان شريكًا في القرارات، حتى عندما لم يكن يدرك حجمها. حملته في يدي وأنا أتنقل من سكن إلى آخر، من وظيفة إلى أخرى، وكان دافعي الأول والأخير أن يرى امرأة قوية أمامه. اليوم هو يكبر بثقة، يرى فيّ نموذجًا مختلفًا عن كل ما سمعه عن "الأمهات المضحيات". لم أضحِ بنفسي لأجله، بل ارتفعت بنفسي وبِه معًا. أريده أن يرى العالم كمساحة ممكنة، لا كقيد.
س: هل ترين أن المرأة قادرة اليوم على التقدم دون تنازلات؟
المرأة قادرة، لكن المجتمع غالبًا لا يتيح لها ذلك بسهولة. لا زال النجاح الأنثوي يُقابل بالريبة أحيانًا، كأنه ليس نابعًا من الكفاءة بل من "صفقة" ما. وهذا ظلم مزدوج. لكنّ النساء يثبتن كل يوم أنهن قادرات على تجاوز كل قيد. أنا لم أتنازل، بل غيّرت المعادلة. حاربت على جبهات عدة، ودفعت أثمانًا باهظة، لكنني اليوم أمثّل نساءً كثر، وأفتح لهن بابًا، كما فتح لي البعض بابًا من قبل.
س: ما النصيحة التي تمنحينها لامرأة تفكر بالانتقال، بالتغيير، بالتحرر من القيد؟
أن تعرف أن الألم لا يعني النهاية. أن لا تنتظر الضوء الأخضر من أحد لتبدأ. القرار الصعب، مهما بدا موجعًا، يحمل في طيّاته بدايات جديدة. لا تسيري على الخريطة التي وضعها غيركِ، ارسمي خريطتك، وتذكّري دائمًا: لا أحد يملك الحقيقة سواكِ.
س: وأخيرًا، بعد كل هذه التحولات... من هي رولا اليوم؟
أنا امرأة لا تخاف من البدء من جديد. لا أخجل من السقوط، لأنني أتعلم منه. لا أنتظر من أحد أن يمنحني الاعتراف، بل أبنيه داخلي كل يوم. أؤمن أن كل امرأة تؤمن بنفسها، تستطيع أن تخلق وطنًا داخل أي غربة... وأن تضيء مدينة كاملة، فقط لأنها رفضت أن تُطفأ.